فنون النثر في العصر الأموي
أولاً : الخطابة :
أسهمت عوامل كثيرة في ازدهار الخطابة لعصر بني أمية من أهمها :
1ـ الموهبة البيانية : إذ كانت لا تزال للعرب سلائقهم السليمة ، ولم تفسد ألسنتهم بمجاورة الأمم الأعجمية والاختلاط بشعوبها ، وكانوا من البلاغة بحيث جعلهم الجاحظ في كتابه البيان والتبيين أرفع من جميع الأمم في الخطابة .
2ـ الحالة السياسية : امتشق الخطباء ألسنتهم في تصوير مذاهبهم السياسية يدعون لها ضد بني أمية ، يقابلها أنصار بني أمية بخطابة ملتهبة . من أبرز خطبائهم زياد ابن أبيه .
- إضافة إلى ما كان من خطابة القواد في الجيوش الغازية شرقاً وغرباً ، وما احتدم بين القبائل من خصومات قبلية جعلتهم يقتتلون ويخطبون متوعدين منذرين .
3ـ المحافل والوفود : التي امتد أثرها من العصر الجاهلي . وكان يفد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وفود كثيرة يذكرون حاجاتهم في أمصارهم الجديدة .
- وتحولت هذه الوفود إلى سيول في عصر بني أمية تتحدث عن شؤون قومها وشكاواهم ، واتسع الأمر إلى خطب التهنئة والتعزية . وكانوا يسمون هذه المحافل بالمقامات ، وإن تصادف اجتماع الوفود تبارى الخطباء في إظهار سبقهم في الفصاحة والبيان . ومن أبرز خطباء المحافل الأحنف بن قيس .
4ـ الوعظ الديني : إضافة إلى خطب الجمع والأعياد لم تلبث جماعة من الخطباء أن عاشت في حياتها تعظ الناس ، وظهرالقصاص الذين كانوا يقصون على الناس مازجين قصصهم بالتفسير والحديث وأخبار الكتب السماوية . ومن ابرز خطباء هذه الفئةالحسن البصري .
5ـ الحياة العقلية : ارتقى العقل العربي بما أصاب من كنوز الثقافات الأجنبية ، فإذا جدل كثير ينشب في مسائل العقيدة ، وتكونت فرق الجبرية والمرجئة والقدرية والمعتزلة ، وقامت بينهم المناظرات العنيفة ، التي حشدوا لها ما يمكن من أدلة نقلية وعقلية مدارها البرهان المنطقي .
- وعلى هذا النحو انبثق علم الكلام ، وانبثقت معه صورة خطابية جدلية هي صور المناظرة والمحاورة ، فكان الناس يجتمعون من حول أصحاب هذه الصور في حلقات ، مما كان له أثر كبير في رقي الخطابة رقياً بعيداً .
******************
ثانياً : الكتابة .
- كان العرب في معظمهم أميين حتى جاء الإسلام وحثهم على العلم ، وكان لاختلاطهم بالأعاجم دور في أن يفهموا فكرة الكتابوأنه صحف يُجمع بعضها إلى بعض ، فأخذوا يتحولون بسرعة من أمة لا تعرف من المعارف إلا ما حواه الصدر ووعته الآذان إلى أمة كاتبة .
ومن أوائل ما عنوا بتدوينه في العصر الأموي :
- أخبار آبائهم في الجاهلية وأنسابهم وأشعارهم ، وأسهمت القبائل في هذا التدوين ، ففي العصر الأموي تكون بالبصرة والكوفة جيل من الرواة معني بتدوين ذلك ، وخير من يمثلهم أبو عمرو بن العلاء .
- كل ما يتصل بدينهم الحنيف ، فقد تأسست في كل بلدة إسلامية مدرسة دينية عنيت بتفسير القرآن ورواية الحديث وتلقين الناس الفقه وشؤون التشريع .
- مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وضُمت إليها مادة تاريخية كبيرة عن الفتوح الإسلامية وأخبار الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية .
- أخبار الأمم السالفة من ملوك العرب وأخبار عاد وثمود ولقمان وجرهم وممالك طسم وجديس وملوك حمير والقرون الغابرة .
- ونقلوا عن الموالي بعض معارفهم في العلوم المختلفة .
- وكان مما دونوا جملة رسائلهم السياسية ، ودونوا كثيراً من خطبهم خاصة خطب الخلفاء والنابهين من الوعاظ وغيرهم .
- وكثيراً من رسائلهم الوعظية والشخصية . فقد شاعت في أواخر القرن الأول كتابات وعظية كثيرة ، واشتهر عمر بن عبد العزيزبأنه كان يكتب إلى الوعاظ ليرسلوا إليه بعظاتهم . أما الرسائل الشخصية فشاعت بحكم تباعد العرب في مواطنهم ، وبتأثير بعض ظروف من موت يقتضي التعزية أو ولاية تقتضي التهنئة أو شفاعة عند وال لقريب أو صديق أو عتاب أو اعتذار .
وفي كل ذلك ما يدل على اتساع حركة التدوين في العصر الأموي .
الدواوين :
- معروف أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من دون الدواوين في الإسلام ، وأنه قد استعار هذا النظام من الفرس الأعاجم إذ أحس بحاجته إلى سجلات يدون فيها أسماء الجند وأموال الفيء والغنائم ، فوضع بذلك أساس ديواني الخراج والجند .
- لما ولي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الخلافة اتخذ ديوانين هما : ديوان الرسائل وديوان الخاتم وفيه تختم الرسائل الصادرة عنه حتى لا يغيرها حاملوها إلى الولاة .
- والذي يهمنا هو ديوان الرسائل ، لأن أصحابه كانوا يدبجون على ألسنة الخلفاء والولاة . وبحكم وظيفتهم كانوا يختارون من أرباب الكلام وأصحاب اللسن والبيان ، وكان على كل منهم أن يحاول إظهار براعته ومهارته في تصريف الألفاظ وصياغة المعاني حتى يروق من يكتب على لسانه ، وينال رضاه واستحسانه .
- فالخليفة لم يعد يملي كتبه على كُتّابه كما كان الشأن في القديم ، بل أصبح الكاتب يكتب الرسالة ثم يعرضها عليه ، وبالتاليأصبح الضمير في الخطاب ضمير الغائب لا ضمير المتكلم .
- وكانوا يعنون بالطوامير والقراطيس التي يكتبون فيها ، كما عنوا بخطوطهم .
- وكان ديوان هشام بن عبد الملك مدرسة كبيرة رقي فيها النثر الفني لهذا العصر إلى أبعد غاية ، إذ كان يتولى ديوان الرسائلسالم مولى هشام ، فأخذ يخرج غير كاتب ، واشتهر من تلاميذه اثنان : ابنه عبد الله ، وصهره عبد الحميد .
عبد الحميد الكاتب :
- هو عبد الحميد بن يحيى بن سعيد من موالي بني عامر بن لؤي وهو فارسي الأصل .
- قرأ في أدب الفرس السياسي ، واتصل كذلك بالثقافة اليونانية عن طريق غير مباشر ، وهو أستاذه سالم الذي كان يحسنها وينقل عنها أحياناً ، وكان يضيف إلى ذلك ثقافة واسعة بالشعر العربي .
- وهو بدون ريب أبلغ كُتابِ العصر وأبرعهم . وقد سماه الجاحظ عبد الحميد الأكبر ، حتى لقد قيل : ( فتحت الرسائل بعبد الحميد وخُتمت بابن العميد ) .
- تحولت الرسائل على يديه إلى رسائل أدبية بالمعنى الدقيق كأنه حاكى بذلك رسائل الفرس التي أثرت عن الساسانيين ، فقد مضى يحاكيها لا محاكاة طبق الأصل ، وإنما محاكاة تمثل وابتكار .
- من ذلك رسالته إلى الكُتّاب ، التي وصف فيها صناعة الكتابة وأهمية الكُتاب في تدبير الحكم وما ينبغي أن يتحلوا به من آداب ثقافية وأخرى خُلُقية وسياسية تتصل بالخلفاء والولاة والرعية .
خصائص أسلوب عبد الحميد في رسائله :
1ـ رسائله الأدبية تكتب في موضوعات مختلفة من الإخاء وقيادة الحروب والصيد . وأخذت تزاحم الشعر وتقتحم عليه بعض ميادينه كوصف الخيل والسلاح ووصف الصيد .
2ـ وهي لا تكتب في ذلك كتابة موجزة ، بل أصبح أساساً فيها أن تتفنن في القول وتشعّب المعنى معتمدة على الثقافات الأجنبية والعربية المختلفة .
3ـ غزارة المعاني وترتيبها ، ووضوح وانكشاف الدلالة ، والبعد عن الغموض والخفاء .
4ـ العناية باختيار ألفاظ فيها عذوبة وحلاوة ، والبعد عن التوعر والغريب والوحشي .
5ـ العناية بالترادف الذي ينتهي إلى الازدواج الموسيقي الذي يؤكد المعاني ويثبتها في الذهن .
6ـ إضافة الطباقات والتصويرات التي تضفي على أسلوبه روعة بيانية خلابة .
***************